1) المقصود بـ”مبدأ حياد القاضي”.
قد يتبادر إلى الذهن عند سماع مصطلح “حياد القاضي” أن المقصود به هو عدم التحييز إلى أحد الخصوم، أو الوقوف على مسافة واحدة بينهم دون تمييز أحدهم عن الأخر، فهذا الأمر من البديهيات المفترضة في جميع أعمال القاضي، والتي تعد من صميم وظيفته، وإنما يقصد به أن يلتزم القاضي بما يقدمه الخصوم من أدلة في الدعوى، فيتولى تقديرها في حدود القوة التي يعطيها النظام أو الشرع لكل دليل.
ويعد هذا المبدأ من أهم المبادئ الأساسية التي تحكم النظرية العامة في الإثبات، والذي يتأسس على قاعدة أصولية قوامها: وجوب اطمئنان المتقاضي إلى قاضيه، وأن قضاءه لا يصدر إلا عن الحق وحده دون هوى، وقد حرصت الأحكام التشريعية المنظمة لشئون القضاء على تدعيم هذه الحيدة وتوفيرها.
2) النتائج المترتبة على اعتناق مبدأ الحياد.
يتضح أن ظاهر المبدأ يجعل دور القاضي سلبيًا، يقف عند حد تلقي ما يقدمه الأطراف من أدلة، ثم يتولى تقديرها، دون القيام بأي عمل إيجابي في توجيه الإثبات؛ مما يستتبع ذكر النتائج المترتبة على الأخذ بهذا المبدأ، وذلك على النحو التالي:
أ] يجب على القاضي ألا يقضي بعمله الشخصي:
يمتنع على القاضي أن يستند في حكمه إلى عمله الشخصي عن موضوع النزاع، فكافة الوقائع أو الأدلة التي يجب أن يستند إليها القاضي عند تأسيس حكمه يجب أن تقدم له وفقًا للقواعد والإجراءات التي حددها النظام، فإذا نمى إلى علم القاضي واقعة أو دليل عن موضوع القضية المطروح عليه دون الطريق النظامي، فلا يجوز الاستناد إليه عند الفصل في موضوع النزاع؛ إذ لو جاز ذلك لاعتبر علم القاضي دليلًا في القضية، مما يتنافى مع منع القاضي من الاستناد إلى دليل تحراه بنفسه.
والعلم الشخصي: هو ذلك العلم المبني على معلومات تصل إلى علم القاضي بصدد وقائع الدعوى عن غير الطريق المقرر والمحدد نظامًا، وهو يختلف -بطبيعة الحال- عن المعلومات العامة أو العلمية المستفادة من الخبرة بالشئون العامة، والتي تفترض علم الكافة بها، والتي لا تصل إلى حد تعييب استناد القاضي إليها، أو استخلاص تقديره بناءً عليها.
فعلى سبيل المثال: فإن استخلاص القاضي حصول ضرر للمؤجر بسبب تغيير استعمال العين المؤجرة من مكتبة إلى ورشة؛ يُعد من قبيل المعلومات العامة التي يقتضي علم الكافة بها.
ويتفرع عن ذلك؛ أنه لا يجوز للمحكمة أن تقضي في المسائل الفنية بعلمها، بل يجب الرجوع فيها إلى رأي أهل الخبرة، وكذلك لا يجوز للمحكمة أن تقضي في المسائل الفنية إلا بعد تبيان المصادر التي استقت منها ما قررته.
ب] يجب على القاضي أن يُطلِع كل خصم على أدلة خصمه:
يترتب كذلك على الأخذ بمبدأ حياد القاضي وتطبيقه؛ أن يُتَاح لكل خصم العلم بالأدلة المقدمة من الخصم الآخر، والتمكن من مناقشتها، وتفنيدها، وإثبات عكسها، فلا يجوز للقاضي أن يأخذ بدليل دون أن يعرضه على من يحتج عليه به، وإلا كان القضاء بموجب هذا الدليل باطلٌ، وهو ما يعرف بـ”مبدأ المُجابهة بالدليل“.
وليس معنى ذلك أنه لا يجوز للقاضي أن يقضي بمقتضى الدليل الذي قدمه أحد الخصوم إلا إذا ناقشه الخصم الأخر، وإنما معناه فقط أنه يجب عليه أن يُمكِن الخصم الذي يطلب إثبات عكس ما قدمه خصمه من هذا الإثبات، فإذا لم يطلب الخصم ذلك فلا تثريب على المحكمة إن هي أخذت بالدليل الذي قدمه الخصم الأول.
ويلاحظ أنه ليس ثمة ما يمنع من استناد المحكمة إلى ما قضي به في دعوى أخرى لم يكن الخصوم طرفًا فيها، إذا كان ذلك لمجرد تدعيم الأدلة التي ساقتها؛ لأن ذلك لا يعدو أن يكون استنباطًا لقرينة قضائية رأت فيها المحكمة ما يؤيد نظرها.
ج] التزام القاضي بتسبيب ما يصدر عنه من أحكام:
يلتزم القاضي وفقًا لمبدأ الحياد أن يسبب حكمه، فعليه أن يذكر كيفية تحصيله وقائع الدعوى، والدليل الذي اعتمد عليه في ذلك، وأسانيد التحصيل، وعدم بيانه الأسانيد الواقعية بيانًا وافيًا يترتب عليه القصور في التسبيب؛ مما يوجب نقض الحكم، فالوسيلة المتاحة التي يمكن من خلالها التحقق من أن القاضي قد التزم بمبدأ الحياد، وما يفرضه عليه هذا المبدأ من قيود، هو تسبيب حكمه، كما يعد الالتزام بالتسبيب من الضمانات الهامة التي تكفل الرقابة في تطبيقه النظامي والشرعي.
في نهاية مقالنا عن “مبدأ حياد القاضي”؛ فقد يُهمَك أن تطلع على نظام الإثبات السعودي الجديد ولوائحه التنفيذية، ويُسعدنا أن نهديك هذه النسخة المجانية المُصممة من جانب مكتبنا “جامع نظام الإثبات ولوائحه pdf“.